“شارع عربي الشكل والمضمون، هو عصب القاهرة القديمة وشريانها الرئيسي، لا يمكن للعين أينما تجولت فيه إلا ان تقع على أثر عربي “إسلامي” شامخ، تعاقبت عليه عصور مختلفة، وأزمنة متباينة والشارع ممتد لم تجن الحياة منه لحظة واحدة، ولم يتحول ركن فيه إلى أطلال، منذ أكثر من ألف عام تتدفق الحياة في شارع المعز لدين الله، أو شارع بين القصرين كما كان يسمى في بعض الفترات، أو قصبة القاهرة كما أطلق عليه المقريزي مؤرخ مصر والقاهرة”.
هكذا يصف الكاتب الكبير جمال الغيطاني شارع المعز لدين الله الفاطمي في كتابه “ملامح القاهرة في ألف سنة”، يقول: أول أثر يقابلنا عند دخولنا إلى الشارع من باب الفتوح الذي كان يمثل حدود القاهرة الشمالية هو مسجد الحاكم بأمر الله وهو أيضاً أقدم أثر في الشارع.
أول ما يلفت نظرنا في مسجد الحاكم بأمر الله مئذنتاه اللتان شيدتا على شكل منارة الإسكندرية التي هدمها الزلزال واندثرت، كأن كل حجر منهما يمثل حدثاً تجمد من العصر البعيد، السلم حلزوني فوق درجاته نقوش فاطمية تآكلت. تدور السلالم حول جسم اسطواني ضخم من الحجر، مسكونتان الآن بالوطاويط، وفي الليل تطير منه إلى بيت السحيمي مشكلة غمامة سوداء متحركة، إنهما أقدم مئذنتين في القاهرة وفي العمارة العربية بمصر.
مسجد الحاكم بأمر الله ليس الوحيد الذي يحتويه شارع المعز لدين الله لفاطمي، فهناك مساجد أخرى أولها مسجد الأقمر القابع في حزن على مقربة من شارع الخرنفش، مقر تجار الخيش الآن، إنه مثقل بمئذنة نحيلة تعود إلى العصر العثماني بنيت فيه، لكن لا علاقة لها بطرازه المعماري، عانى كثيرا من إيواء الذين تهدمت منازلهم، حيث انهارت البيوت القديمة المحيطة به.
المسجد التالي هو مسجد الفكهاني على رأس حارة حوش قدم، أما المسجد الثالث فيقوم خارج باب زويلة، نهاية الطرف الآخر لشارع المعز لدين الله، إنه مسجد طلائع بن رزيك، الذي جددته هيئة الآثار العربية في الثلاثينات، وهنا نلاحظ أن الشارع يبدأ بمسجد الصالح الطائع الذي بنى في أواخر الدولة الفاطمية.
أقدم بيت عثماني
بعد أن ينتهي سوق الليمون تطالعنا بوابة قديمة، ذات زخارف عربية، إنها بوابة حارة بيرجوان، في هذه الحارة ولد وعاش المؤرخ الكبير تقي الدين أحمد المقريزي صاحب الخطط المشهورة، في مواجهته حارة الدرب الأصفر، وكان في هذه الحارة المذبح الخاص بقصور الخلفاء الفاطميين.
في حارة الدرب الأصفر أحد بيوت القاهرة القديمة أو أشهر بيت وصل إلينا في العصر العثماني، إنه بيت السحيمي اسمه الشيخ عبدالوهاب الطبلاوي، في أواخر القرن الثامن عشر وكان من علماء الأزهر ثم انتقلت ملكيته إلى أسرة آل السحيمي ثم آلت ملكيته إلى الدولة.
في شارع المعز أمام حارة الخرنفش نرى “سبيلا” من أجمل وأرق ما في العالم العربي إنه سبيل عبدالرحمن كخذا، ونقترب من شارع بين القصرين هنا كان يقوم ميدان كبير يقع بين القصر الغربي الصغير والقصر الشرقي الكبير زمن الفاطميين، وكان يتسع لعشرة آلاف جندي أثناء العروض. ومن هنا جاء اسمه بين القصرين.
مجموعة قلاوون
نرى قصر الأمير بشتاك ومجموعة نادرة من الاثار العربية تنتمي إلى العصر المملوكي، ومسجد المنصور قلاوون تجاوره قبة دفن تحتها شيدت على نمط قبة الصخرة بالمسجد الأقصى، وفي نهايتها تقوم المئذنة الرشيقة المكونة من ثلاثة طوابق، وبجوار القبة مسجد الناصر محمد بن قلاوون، ويطالعنا باب رخامي غريب الشكل، إنه باب المسجد كان في الأصل باباً لكنيسة عطا، فعندما انتصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون على الصليبيين وهزم آخر معاقلهم في عكا، قام بفك باب كنيستها، ونقله إلى القاهرة وجعله باباً لمسجده كشاهد على نصره.
بجوار هذه المجموعة بيمارستان قلاوون كان مستشفى ضخما أقامه المنصور قلاوون وكان يضم أقساما عديدة لعلاج الأمراض المختلفة، واحتوى على مكتبة طبية ضخمة، وضم بين رجاله فرقة موسيقية كانت تعزف الأنغام الرقيقة لتهدئة المرضى والترويح عنهم، كذلك مجموعة من المقرئين يتلون ىيات القرآن للتخفيف عن المرضى ويث السكينة في نفوسهم، ويعد هذا من أقدم أشكال العلاج النفسي في العالم، والطريف أن السلطان قلاوون خصص جزءا من الوقت الخاص باليمارستان لشراء القمح والحبوب ونثرها فوق القبة وسطح البيمارستان لإطعام العصافير والطيور.
في مواجهة المجموعة قبر الملك الصالح نجم الدين أيوب وفيه ترقد أيضاً المرأة الشهيرة التي حكمت مصر، شجرة الدر.
من مساجد العصر المملوكي في شارع المعز أيضا الأشرف برسباي أحد سلاطين المماليك الأقوياء، ويقوم عند مدخل حارة الخمراوي سوق العطور والتوابل والأعشاب الطبية، ومسجد المؤيد الشيخ الحموي الذي يجاور باب زويلة، أما آخر مسجد عظيم شيد في العصر المملوكي فهو مسجد السلطان قنصوة الغوري الذي شيده في أواخر القرن الخامس عشر، .
توجد عدة مساجد أخرى في الشارع تعود إلى العصر العثماني كمسجد السلحدار عند مدخل حارة بيرجوان، وهناك سبيلان بنيا في عصر محمد علي باشا، أحدهما في مواجهة مجموعة قلاوون الأثرية، والسبيل الثاني في مواجهة مسجد المؤيد الشيخ الحموي.
الأسواق
الأسواق جزء من تاريخ شارع المعز لدين الله. كان الشارع يمثل قلب المدينة ومركزها التجاري ومركز الحركة فيها. والشارع الذي تمر منه مواكب السلطان ومواكب النصر وقوافل الأسرى، وموكب المحمل عند الخروج أو العودة منه.
كان الشارع يمثل الجزء الأكبر من قصة القاهرة التي يصفها المقريزي بأنها أعظم أسواق مصر، والتي كانت تحتوي على اثنى عشر ألف حانوت، وكانت الأسواق تبدأ من باب الفتوح، وفي ما يلي ذك الباب كان يوجد سوق اللحم والخضر. كانت حوانيت القصابين تصطف متجاورة تبيع لحم الضأن والماعز، وكان يقصد من سائر أنحاء مصر خصوصاً في مواسم الحج، فلو أراد الإنسان تجهيز مائة جمل في يوم واحد ما شق عليه ذلك.
ثم نمر بسوق بيرجوان الذي كان يعرف باسم سوق أمير الجيوش، وبه عدد كبير من الخبازين والجبانين والعطارين. وموضعه الآن تجار الأقمشة. وحول مسجد الأقمر كان هناك سوق الشماعين حيث تباع الشموع الضخمة التي تحمل في المواكب، وكانت تباع به الفوانيس التي تضاء حتى ساعة متأخرة من الليل، ويلي ذلك سوق الدجاجين، وفيه الدجاج والإوز والطيور المتنوعة. وكانت تباع فيه عصافير محبوسة يشتريها الأغنياء ليعتقوها، وقد تحول هذا السوق فيما بعد إلى مكان لبيع وشراء السلاح.
ثم سوق الحلي ولا زال يحتل مكانه حتى اليوم، ويعرف بسوق الصاغة، ثم سوق الحلوى وسوق المهاميز وسوق السروجيين.
أما أشهر سوق في شارع المعز لدين الله سواء في الزمن القديم أو العصر الحالي فهي خان الخليلي. كان في الأصل عند بناء القاهرة مقراً لمقابر الخلفاء الفاطميين عرف باسم تربة الزعفران، وفي عصر المماليك الجراكسة هده الأمير جهاركس الخليلي، وبنى مكانه سوقاً كان يجيئ إليه تجار العجم بالسجاجيد والتحف، ثم جدده السلطان الغوري. ثم استمر مقراً لبيع التحف والصناعات الدقيقة ولا زال حتى اليوم.
وكما يؤكد الغيطاني لا زال الشارع يضج بالحياة، ويزخر بها لا يعبق فقط بروائح التاريخ، إنما يتجسد الزمن الحاضر فيه وينبض حياً.
Add Comment