من أبرز محتوياته لوحة سوسة ولوحة للشاعر فيرجيل بين ملهمتي الفن والتاريخ
رحلتي الى تونس بدأت من بوابة التاريخ حيث متحف باردو ذلك المتحف الشهير الذي يضم اكبر مجموعة من الفسيفساء في العالم كما يحتوي على قطع اثرية نادرة تمتد من فترة عصور ما قبل التاريخ وصولا الى مختلف الحضارات التى استقرت في تونس بدأ بالحضارة القرطاجية فالرومانية والبيزنطية والحقبة العربية الاسلامية. وكل ذلك تجسد بلوحات صنعتها انامل نحاتين برعوا في رسم ادق تفاصيل حياة اناس عاشوا في ذلك الزمان كما وثقوا لنا صورهم وبيوتهم ومأكلهم وملبسهم حتى اختصرت رحلتنا داخل المتحف لساعتين ازمنة وعصور رافقنا خلالها من عاش فيها بكل تفاصيل حياته.المتحف يقع في منطقة باردو وهي موجودة في احدى ضواحي تونس يبعد 4 كيلو مترات عن قلب العاصمة وكان المتحف احد القصور الفخمة التي قام بتشييدها «بايات» تونس كمقر لاقامتهم منذ القرن الثامن عشر حيث شيد في عهد الحسين بن علي باي بنمط معماري تونسي اندلسي وتم تدشينه عام 1888 خلال فترة حكم العائلة الحسينية وبداية الاستعمار الفرنسي تحت مسمى المتحف العلوي نسبة لعلي باي الذي تولى الحكم في تونس من عام 1882 الى 1902 وتم استبدال اسمه منذ الاستقلال عام 1956 باسم المتحف الوطني بباردو ويختصر باسم متحف باردو.
وفي «متحف باردو» المستمد اسمه من الاسبانية وتعني القصر او السرايا يمتد على مساحة نحو 15 الف كيلومتر ويجمع المتحف بين خصائص العمارة الموريسكية والتأثيرات الايطالية التي تبدو جلية للعيان من خلال زخارف الاجنحة الفخمة وخشب السقوف المطلي بالدهان والمذهب كما يتميز بطريقة عرض سهلة ومقسمة حسب الفترات التاريخية.
لوحة سوسة من اكبر الفسيفساء المعروضة في المتحف تم وضعها بطريقة عمودية تبلغ مساحتها 130 مترا مربعا وتزن 4 اطنان اكتشفت هذه الفسيفساء في مدينة سوسة «حضر موت سابقا» وتجسد آله البحر الروماني «نبتون» وهو يحمل رمحا ذا ثلاث اسنان حيث ان نبتون حسب المعتقدات الاسطورية كان الآله الحامي للمدينة في تلك الحقبة.
في الطابق الارضي للمتحف وجدنا قسم ما قبل التاريخ حيث يتضمن قطعا حجرية متناثرة جمعت من مواقع اثرية من مختلف ربوع تونس منها بقايا اشكال معمارية قديمة، الى جانب مخطوطات تعود للحقبة اليهودية والمسيحية حيث لوحة لجزء من واجهة تابوت به مشهد متعبده قرب الحوريين بطرس وبولس ولوحة اخرى لفسيفساء مأتمية لعامل بالمخازن العمومية الملقب بالوديع وصورته مرفقة بوعاء كيل القمح رمزا لمهنته وتوجد مجموعة من التوابيت المنحوتة في الصخر واماكن كانت تخصص للتعميد. ومن ثم تتوالى القاعات بين قاعة قرطاج واخرى المهدية وقاعة الفسيفساء المسيحية مرورا بقاعة الاباطرة وتضم رؤوس الاباطرة الرومانيين من الامبراطور اغسطسيوس والامبراطور تراجانوس وهدريانوس وفيتاليوس وبعدها انتقلنا الى عالم الفسيفساء حيث عالم اوليس وهو ينقاد للاستماع لغناء عرائس البحر وإله الجمال فينوس وقربها ثلاثة من ملائكة الحب فهنا يعيش الزائر بعالم متكامل بكل اطيافه وتفاصيل حياة الانسان في تلك الفترة، وثقت لنا ملامحهم واسلوب حياتهم من صيد الحيوانات واشكال الخيول والبراري واشكال المنازل والحدائق وجمال الطبيعة الخلابة، كما جسدت تلك اللوحات معتقداتهم والهتهم.
الركن الاسلامي في المتحف مقسم الى قسمين الاول، يحتوي على تحف تاريخية من حفريات موقعي رقادة وصبرة الاثريين بمنطقة القيروان وهي عبارة عن اوان زجاجية فاطمية تعود الى القرن الـ 11 ونماذج من الخزف المزخرف، والقسم الثاني تشاهد تحفا من النحاس ومجموعة من الحلي والمصوغات. ولعل ابرز ما يميز المعرض تلك اللوحة الرائعة الجمال للشاعر فيرجيل حيث يبدو جالسا مرتديا جلبابا ابيض مطرزا وحلة رومانية وبيده ورق وتحيط به ملهمة التاريخ «كليو» وملهمة الفن «ملبونام».
وعند هذه اللوحة ذكر لنا المرشد ان هذا الشاعر طلب منه اول امبراطور روماني كتابة قصة تأسيس روما وكان يجب عليه ان يربطها بتأسيس امبراطورية عظيمة حيث كتب رواية اسطورية من صنع خياله وتلك القصة التي كتبها فيرجيل هي القصة الشهيرة المعروفة عن اليسار ملكة قرطاج او عليسه كما تسمى في تونس الا ان دليلنا السياحي لم ينف وجود امرأة اسست قرطاج وتقول الاسطورة ان اليسار وهي ابنة احيرام ملك صور، اوصى والدها لها ولاخيها بالملك بعد وفاته حيث تزوجت من الكاهن الاكبر ولكن اخاها استأثر بالحكم مما جعل زوجها يتخذ موقفا ضده وهذا ما اثار غضب اخيها فقتله عندها حزنت اليسار حزنا شديدا على زوجها وقررت الفرار من مدينتها خوفا من بطش اخيها ويقال انه في احدى الليالي نقلت اموالها الى السفن وصعدت اليها برفقة عدد كبير من انصارها وأقلعت بها السفن الى جزيرة قبرص وبقيت فيها بعض الوقت حيث اوعزت للشبان مرافقيها بالزواج من بنات الجزيرة وظلت تسير اياما حتى بلغت مكانا جميلا على شاطئ شمال افريقيا حيث قررت اليسار ومن معها بناء مدينة للاقامة فيها غير ان ملك تلك الارض اراد بيعها قطعة ارض بحجم جلد الثور، وتروي الاسطورة ان اليسار قبلت وامرت بتقطيع جلد الثور الى خيوط دقيقة جدا ومدتها على الارض ومن طول تلك الخطوط حصلت على مساحة بنيت بها مدينتها التي اطلق عليها اسم قرطاج.
بيان عاكوم – تونس ياسمين الحمامات وسوسة
يطلق عليها «تونس الخضراء»، وأنا أضيف إلى ذلك اللقب «تونس التحفة الأثرية الضاربة في جذور التاريخ»، فتونس ارض الأباطرة ومعبر الحضارات تشكل تمازجا ما بين الطبيعة الخلابة المرسومة بيد الخالق من اخضرار أراض وعزوبة مناخ وذهبية شواطئ من جهة، وبين تاريخ جعل منها معلما اثريا ومتحفا مفتوحا في الهواء الطلق يروي قصص وحكايات شعوب استقرت في تلك البقعة من الارض لفرادة موقعها وسحر جمالها الاخاذ مما جعلها ملاذا للفينقيين والرومانيين والبيزنطيين وصولا الى الحضارة العربية الاسلامية من جهة اخرى.
فتونس تلك التحفة الفنية العائمة على ضفاف البحر الابيض المتوسط المتجهة نحو اوروبا، والممتدة على ساحل الشمال الافريقي لها سحر غربي بطابع عربي اصيل تجسد في مدن تلك البلاد من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب حيث الجمال اينما حللت، بدءا بتونس العاصمة حيث متحف باردو وجامع الزيتونة العتيق الذي تخرج فيه آلاف العلماء مرورا بقرطاج مدينة الفن والتذوق الى سيدي بوسعيد والقيروان وصفاقس وسوسة والمهدية والحمامات… كلها سيمفونيات رائعة لأهم حضارات عرفها المتوسط تبرز شامخة بين لوحات تشكيلية طبيعية.
زيارتي الى تونس جاءت بدعوة من السفارة التونسية في البلاد بالتعاون مع الديوان الوطني للسياحة والخطوط الجوية التونسية بمناسبة افتتاح الموسم السياحي استمرت اربعة ايام تنقلنا خلالها ما بين متحف باردو في العاصمة الذي يعتبر أول متحف في العالم بالنسبة الى فن الفسيفساء الرومانية، ومنطقتي «ياسمين الحمامات» «وسوسة» العريقتين والمعروفتين بجذبهما للسياح من مختلف أنحاء العالم.
Add Comment