سور صلاح الدين يتحول إلى وكر للمدمنين ومأوى لـ«البلطجية».. سرقة كبائن الكهرباء وتحطيم أبواب الحصون
البداية من شارع البنهاوى المتفرّع من شارع الجيش بمنطقة باب الشعرية، حيث سور القاهرة الشمالى، الذى بناه جوهر الصقلى قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمى، وكان خليطاً من الطوب اللبن والحجارة، ثم أُعيد بناؤه من جديد بعد ربع القرن، حيث جدّده ووسعه بدر الدين الجمالى، أحد قادة الجيش فى الدولة الفاطمية، وفى عام 572 هـ قام صلاح الدين الأيوبى باستكماله وإعادة بنائه من الحجر المنحوت، مصقول السطح القابع فى أجزاء من السور حتى الآن، خصوصاً فى الجزء الشمالى، الذى رُمّم العام الماضى وتسلّمته وزارة الآثار لتديره.
السور الذى لم يمر على الانتهاء من ترميمه عام واحد، يتعرّض حالياً لاعتداء ينال جميع أركانه، يبدأ من استخدام بعض الأشخاص الذين يصفهم ممدوح خيرى، أحد سكان المنطقة، بـ«المسجلين خطر» يستولون على الرصيف الذى يدخل ضمن الحرم الأثرى للسور، وقاموا بتحويله إلى ساحة انتظار للسيارات فى مقابل خمسة جنيهات للساعة، مما تسبب فى انهيار بعض الكتل الحجرية التى تفصل حرم السور عن الشارع الخارجى، وعلى بعد أمتار من ساحة الانتظار العشوائية التى رصدتها عدسة «الوطن»، بينما يقوم شابان فى الثلاثينات من عمريهما بأعمال تقطيع وسمكرة لجزء مقتطع من سيارة ربع نقل على رصيف السور الأثرى.
خطوات قليلة داخل حرم السور، تكشف عن سرقة «وصلات الكهرباء» من شبكة الكهرباء التى تُغذى لمبات الإضاءة فى السور الأثرى، مثل لمبات الإنارة المدفونة فى الأرضية، وكشافات الإنارة المثبتة على الجدران وعلى سطح الأرضية، ويقول سيد وجدى (كهربائى، أحد سكان منطقة الجمالية)، إنها من أجود كشافات الإضاءة، وبعضها مضاد لمياه الأمطار.
ويتوسط السور الشمالى الذى يحمل رقماً أثرياً «352» باب «النصر» وباب «الفتوح» اللذان يعدان من روائع العمارة الحربية، لكثرة الزخارف بهما، كما وصفهما الرحالة الأوروبيون فى كتبهم. وقد خصصت وزارة الآثار البابين كمدخلين لمتحف القاهرة الفاطمية، بتصميم بوابات إلكترونية تُغلق يومياً من التاسعة صباحاً وحتى العاشرة مساءً، كما تخبر لافتة فوسفورية اللون مثبتة أمام باب «الفتوح»، لكن على أرض الواقع لم تعد هذه البوابات الإلكترونية تعمل، بل أصبحت سيارات النقل وغيرها تتردد على المكان على مدار الساعة دون أى اعتراض من أفراد الشرطة القابعين على البوابة لتنظيم عملية المرور وتأمين المكان.
ويبرر أحد أمناء الشرطة الذى رفض نشر اسمه فتح البوابات الإلكترونية دائماً، فيقول: «الناس كلها دلوقتى بقت فتوات، ولو منعنا حد من الدخول بالعربية، هندخل فى مشاكل لا نهاية لها». وينفى أمين الشرطة أحد أفراد القوة الأمنية أمام باب «الفتوح» مسئوليتهم عن تأمين السور، مؤكداً أن دورهم يقتصر على تأمين ومراقبة حركة المرور من البوابة فقط.
بابا «النصر» و«الفتوح» الواقعان عند سور القاهرة الشمالى يدخلان ضمن مشروع القاهرة الفاطمية، الذى زاره الدكتور أحمد عيسى، وزير الدولة لشئون الآثار، فى مايو الماضى بهدف الوقوف على آخر تطوّرات المشروع والتعرّف على أهم المشكلات التى تواجهه لحلها، هكذا صرحت الوزارة فى بيانها، بينما الحقيقة، كما يرويها أحد العاملين بالمشروع، رفض التصريح باسمه، هى أن مسئولى الوزارة لم يصطحبوا الوزير إلى المنطقة التى تعرّضت لأعمال النهب والسرقة، ويؤكد الموظف بالآثار أن الوزير لم يعلم شيئاً عن الكوارث التى حدثت فى السور، على حد تعبيره، فالممرات داخل السور والغرف الموجودة فى الأبراج الحربية تتعرض للسرقة وعمليات السطو. ورصدت «الوطن» أثناء جولتها داخل الحصون والممرات والسراديب بعض أعمال السطو على المنشأة الأثرية.
بوابة «الفتوح» المحصورة بين حصنين كبيرين بارزين عن جدار السور، لهما واجهة مستديرة، تتناثر فى أعلاهما فتحات «المزاغل» التى استخدمها الجيش فى رمى السهام وإلقاء الزيوت المغلية والمواد الكاوية على من يقتحم البوابة من الأعداء، وقد صُمم باب «الفتوح» على هيئة باب يعلوه زخارف بأشكال معينة بها طلاسم ورسومات قديمة.
ما إن تخطو بضع خطوات إلى الأمام، حتى يظهر مقام صغير مدفون فيه جثمان «العارف بالله سيدى الذوق»، يتطلب منك النزول درجات سلم إلى أسفل للوصول إلى بابه، لتكتشف فى الأسفل كم الإهمال، حيث تعرّض باب المقام للكسر ليظهر منه جزء من الكفن الأخضر الذى يرمز إلى «التصوّف» ويلف رفات «سيدى حسن الذوق».
صاحب المقام له قصة ترويها السيدة الأربعينية «فتحية» التى اتخذت لنفسها مجلساً على رصيف خلف المقام: «المدفون هنا سيدى حسن الذوق، الذى كان يقضى بين الناس بالعدل. وفى إحدى المرات حدث خلاف بين فتوات المنطقة وفشل الذوق فى الصلح بينهم، فشعر الرجل أن حكمته بدأت تتهاوى، وحزن على ما وصل إليه حال المنطقة وأهلها، وقرر أن يخرج منها، أثناء خروجه من بوابة الفتوح خر ميتا، وقرر الأهالى دفنه فى المكان الذى توفى فيه». تصمت السيدة لبرهة ثم تضيف: «الحرامية كانوا فاكرين هيلقوا فلوس لما يكسروا باب الضريح».
بعدما تغادر المقام إلى جهة اليمين من الباب ستلاحظ تسرُّب المياه الجوفية ومياه الصرف الصحى إلى جوار السور، وقد تغيّر لونها إلى السواد وفاحت منها رائحة العطن، وتسللت المياه إلى داخل غرف وممرات السور وأحد السراديب الموجودة أسفله. يؤكد أحد عمال النظافة، أن المياه موجودة منذ أكثر من أسبوع، وجاءت لجنة من مسئولى الآثار لمعاينتها ولم تفعل شيئاً.
الصعود إلى أعلى السور والتجوّل داخل ممراته وحصونه لم يواجه أى عقبات، فى ظل اختفاء تام لأفراد الأمن المسئولين عن تأمين السور، وهو ما ساعد «الوطن» على توثيق ما يدور فى أروقة المكان بالصور، تبدأ الجولة بصعود درجات السلم الجانبى ليتكرر مشهد سرقة شبكة الكهرباء ثانية، سواء لمبات الإضاءة أو الأسلاك أو الكبائن الكهربائية. لم يترك اللصوص إلا بعض الإسلاك الملقاة على الأرض، ينتهى صعود السلم بمدخل لباب خشبى لم يتبق منه إلا الحلق المثبت بالجدران، من خلف الباب ممرات وغرف لا يشق ظلمتها سوى شعاع من نور الشمس المتسرّب من ممر رماة السهام.
سكان الجمالية: غرف السور وممرات السهام تعرّضت للنهب.. والمعتدون اعتقدوا أن خلفها أشياء ثمينة
تتفرّع من ممر السهام عدة غرف تعرّضت أبوابها الخشبية أو الحديدية للسرقة، باستثناء قلة يظهر عليها محاولات الكسر بالقوة، من أجل فتحها. ويرى كريم فوزى الشاب الثلاثينى الذى رافقنا من أهالى المنطقة أن من قاموا بتحطيم البوابات كانوا يعتقدون أن خلفها أشياء ثمينة تستحق السرقة.
ويؤكد «كريم» أن هذه الغرف تتحوّل مع سواد الليل إلى أوكار للمدمنين ومتعاطى المخدرات. ينحنى «كريم» على الأرض ويمد يده اليمنى ليلتقط بعض «أوراق البفرة» المحترقة، وما تبقى من السجائر المحشوة بالمخدرات المتناثرة على الأرض.
يفسر حسين مجدى، أحد سكان منطقة الجمالية، وجود هذه الأشياء، قائلاً: «مع منتصف الليل يتسلل إلى السور أطفال الشوارع ممن ليس لهم مأوى ليقضوا ليلتهم هنا أفضل من النوم فى الشارع، وينهضون من نومهم مع الظهر، ليتركوا المكان على هذه الحالة»، ويضيف «حسين» ساخراً: «هما هيلقوا مكان أحسن من هنا فين»، ولا يستطيع أحد من الأهالى اعتراضهم، حتى لا ندخل فى صدام معهم نحن فى غنى عنه، ولكن المشكلة من وجهة نظره هى الاشتباكات التى قد تحدث بين أطفال الشوارع وبعضهم، حيث يستخدمون فى خلافاتهم ضد بعضهم مسدسات الخرطوش والسلاح الأبيض. ويقول «حسين»: «سبق أن قدّم الأهالى شكاوى أكثر من مرة لوزارة الآثار وأفراد الأمن التابعين لها الذين لا نراهم غير ساعتين فى الصباح، ولكن دون جدوى».
النزول على السلم الحلزونى من أعلى السور إلى أسفله يتطلب الحذر، السلم الذى يلتف حول عمود حجرى، تتراكم عليه أكوام صغيرة من القمامة، وعند نهاية السلم تقع بوابة «النصر» التى تحوّلت إلى موقف لعربات الكارو وإسطبل ترتاح فيه الخيول من أشعة الشمس.
خلا مكتب مشرف الأمن بجوار بوابة «الفتوح» من أفراد الأمن، ولم يوجد به سوى ثلاث سيدات يرتدين زياً بنياً خاصاً بشركة النظافة، وبسؤالهن عن أحد المسئولين عن إدارة السور أو أفراد الأمن، أكدن أنهم موجودون فى وكالة الآثار داخل الجمالية، تطوعت إحداهن بوصف مكان الوكالة التى يوجدون بها، قائلة «همّ بيكونوا هنا الصبح، بيشربوا الشاى، وبعدين بيروحوا على هناك».
تحركنا إلى الوكالة المقصودة، هى عبارة عن مبنى أثرى تم ترميمه وتحوّل إلى مبنى إدارى تابع للآثار، لكن المدير المسئول رفض التعليق والرد على أىٍّ من أسئلتنا، مبرراً ذلك بأنها تعليمات الوزارة، وهى الجهة الوحيدة التى تتعامل مع الإعلام والصحفيين.
محمد عبدالعزيز، مدير مشروع تطوير القاهرة الفاطمية، قال فى تصريحات لـ«الوطن» إن وزارة الآثار توفر لإدارة السور أكثر من 60 فرد أمن يتناوبون على الخدمات الأمنية فى ثلاث ورديات من أجل حماية السور، وهم تابعون للوزارة مباشرة، نافياً علمه بعدم وجود أفراد الأمن أو تحول المكان إلى مأوى لأطفال الشوارع ووكر للبلطجية والخارجين على القانون، مؤكداً أن الوزارة فى طريقها إلى توظيف السور، وأن السور تم الانتهاء من ترميمه العام الماضى فقط، وتسلمته الوزارة ونسعى الآن إلى توظيف استغلال الممرات والغرف بتحويلها إلى متحف سجاد وآخر للخط العربى بتكلفة 4.5 مليون دولار.
تزداد الأمور سوءاً فى الجهة الجنوبية لسور القاهرة الشمالى الذى تعود نشأته إلى 480هـ/ 1087م، وعند منطقة الحفريات من خلفه التى توقّفت فيها عمليات البحث والتنقيب قبل الثورة، وتحوّلت الآن إلى مقلب كبير للزبالة، يلقى فيها الأهالى أكياس القمامة، ويأتى «الزبّالين» من منطقة الدويقة، وفقاً للأهالى، ويقومون بفرز القمامة، لأخذ ما يحتاجونه منها وترك الباقى، وقام بعض أهالى المنطقة بعمل فتحات فى السور وتخصيص مكان داخل منطقة الحفريات لتربية أغنامهم والذبح فيها، وتحوّلت الحفريات والمداخل الخلفية لسور القاهرة الشمالى إلى مأوى للكلاب والحيوانات الضالة التى استقرت فى غرف الجنود ومرمى السهام، كما رصدتها عدسة «الوطن».
ويؤكد محمد عبدالعزيز، مدير مشروع تطوير القاهرة الإسلامية، استكمال الحفريات وتطوير المنطقة بعد استئناف التعاون بين وزارة الآثار ممثلة فى الإدارة العامة للقاهرة التاريخية ووزارة الإسكان ممثلة فى الجهاز التنفيذى لإحياء القاهرة الفاطمية؛ لاستكمال العمل فى المرحلة الثانية من مشروع السور الشمالى للقاهرة بجهته الجنوبية.
صبى صغير فى العقد الثانى من العمر يقف أمام سيارة ميكروباص أجرة، ينادى بصوت مرتفع: «السلام.. نهضة» لا يمل من تكرارها، بينما ينتظر غيره من سائقى السيارات دورهم خلف السيارة التى يقوم «التبّاع الصغير» بالنداء على ركابها، وفى الجهة المقابلة لافتة سوداء صغيرة، مدون عليها باللون الأبيض «ساحة انتظار للسيارات تابعة لمحافظة القاهرة»، هذا ما يحدث أمام سور القاهرة الفاطمية «سور البلد» بمنطقة باب الشعرية، أحد أسوار القاهرة الفاطمية، الذى تحوّل إلى بقايا أطلال، وتعرّض لإهمال كبير يكاد يُخفى ملامح السور، حيث تم بناء المحلات التجارية والبيوت فى حرم السور، فى ظل غياب تام من المسئولين، وبعد سنوات قامت محافظة القاهرة بإزالة التعديات التى تخطت حرم السور، وتركت البعض الآخر يلتهم جزءاً من المنطقة الأثرية، إذ لم يتبق منه سوى كتل حجرية تحاصرها تلال القمامة، وتحوّل السور إلى موقف للسيارات الأجرة وساحة للانتظار بتصريح من محافظة القاهرة، يدار الجراج والموقف بمعرفة البلطجية وفقاً لعربى فرج، الرجل الخمسينى أحد أصحاب المحلات المقابلة لما تبقى من السور التاريخى، يعود الرجل إلى الخلف 5 سنوات، عندما جاءت لجنة من محافظة القاهرة ووزارتى الداخلية والآثار وقامت بهدم جميع المحلات والبيوت، مبررين ذلك بوجود سور القاهرة القديمة خلفها، وأن هذه البنايات أخفت معالم السور تماماً، وبرّرت الجهات المسئولة وقتها -كما يروى عم فرج الطاعن فى السن- الحملة بأنها من أجل إعادة ترميم السور وتحويله إلى مزار سياحى، يعود بالنفع على الدولة وسكان المنطقة، ولم يحدث حتى الآن ما وعد به هؤلاء المسئولون وقتها.
ويرى صاحب المحل أن الأمور زادت سوءاً، حيث عادت التعديات من جديد على جدار السور، خصوصاً بعد الثورة ولم تستطع الجهات المسئولة منعهم، وقام الحى بإعطاء تراخيص لأحد الأكشاك الذى تميز عن غيره من القابعين فى حرم السور دون ترخيص، بينما تحوّلت السراديب التى توجد أسفل أطلال السور إلى مخازن القمامة، ورفض مسئولو حى باب الشعرية التعليق على الاعتداءات التى أصدر لها الحى تصاريح، بينما حمّل محمد عبدالعزيز مدير مشروع تطوير القاهرة الفاطمية محافظة القاهرة مسئولية التعديات التى يتعرّض لها «سور البلد» الذى اعترف بتعرّضه لإهمال شديد، موضحاً أن السور مدرج على خطة وزارة الآثار، لكى يتم ترميمه.
ويصل الإهمال إلى ذروته فى الجزء القابع خلف مسجد الجعفرى وحديقة الخالدين، المتاخمين للسور، حيث يعترف مدير مشروع تطوير القاهرة الفاطمية، بأن هذا الجزء يتعرّض للإهمال، حسب تعبيره. فقد تحوّل المكان إلى مقر دائم لبعض الخارجين عن القانون الذين يسيطرون على جراجات السيارات العشوائية بمنطقة الدراسة.
Add Comment