تمهّل قبل الدخول إلى هذا الموقع؛ الحياة لا تزال تدبُّ فيه بعد مضي أكثر من 16 قرنًا دون انفصال، روح “القديس” هيلاريون كأنها تحلّق فوق الكنيسة الكبيرة التي كان الناس يحجون إليها، أسفلها “نصف تابوت” يُفترض أنه يضمّ رفات هيلاريون، على بعد خطوات من الفسيفساء المزخرفة بـ”بذخ وترف”، و”حمام التعميد” ذي العمق الملائم لإتمام شعائر الميلاد.
ماذا فعل الاحتلال بـ”أم عامر”؟، يحكي التاريخ الذي ينبعث من كل زاوية في الموقع المُسمّى أيضًا “دير القديس هيلاريون” في النصيرات، وسط قطاع غزة؛ أنّه حديث الاكتشاف منذ عام 1993م على يد الاحتلال الذي تطاول على الآثار، وامتد إلى رفات القديس البيزنطي، وغيره، مما قد لا تعلمه وزارة الآثار الفلسطينية.
إنّ ذلك الموقع أشبه ما يكون بـ”قرية متكاملة”، يتربع وسطها لوحة فسيفسائية من أصل ثلاث، ذات ألوان زاهية، يبعد عنها بأمتار قليلة حمام التعميد، الذي يُقال: إن البيزنطيين كانوا يضعون فيه الأطفال لدى ولادتهم، عملت “الآثار” على إزالة الرمال والتربة عنها، وعن الثانية، لكنها لم تفعل ذلك مع الأخرى؛ لحفظها من عوامل التعرية على ما يبدو.
تلّف وتدور في هذا المكان الذي يعود إلى سنة 329م، ويُعد أول دير مسيحي أسس في فلسطين، في إطار “نظام الرهبنة”، ثم تعود إلى نقطة الصفر، فهو ليس إلا تحفة فنيّة متكاملة الأركان، يُعظّم من شأنها “تضارب العصور”؛ فإلى جانب الفسيفساء البيزنطية تفترش فسيفساء أموية الأرض دون “زخرفة”.
وبعيدًا عن الفسيفساء البيزنطية ذات الأشكال المتعددة والمعبرة عن ثقافة الناس في تلك الحقبة، من أوراق التوت والبذخ، وغيرها، تتخذ الأموية شكل “مربعات الشوكولاتة ذات اللون البيج”، نظرًا إلى أن ثقافة الأمويين، والناس في عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز (رضي اللهُ عنه) لم تكن تفضّل حياة الترف.
أما الكنسية، تمامًا كما (180) غرفة، وكما هو حال “الفندق” الذي كان الناس يستريحون فيه بعد طول سفر، ومكان الاستحمام وبئر المياه؛ فهي عبارة عن أحجار انهارت، وتتخذ اللون “البيج”، وقد دعّمتها “الآثار” بأكياس من الرمال حتى لا تسقط على ما يبدو، وأيضًا بأعمدة خشبية لتحقيق الهدف نفسه.
ولئن اقتربت من الكنيسة قليلًا فستدرك عمق المسافة بين قمتها والأرض، وهذا المكان تحديدًا لم يكن من المسموح لأحد بالدخول إليه، إلا كبار الرهبان والقساوسة، من ذوي “الرتبة العالية”، ويتناثر بجانبها وفي كل مكان “التيجان” (جمع “تاج”، وهو قمة العامود الواحد من الأعمدة التي تقوم عليها تلك البنايات).
ضآلة الإمكانيّات
سألت “فلسطين” رئيسة قسم الأبحاث والدراسات في وزارة السياحة هيام البيطار عن الموقع التاريخي، فقالت: “هو أول صومعة أنشئت للعبادة، أما اسمه (أم عامر) فهناك أقوال منها أنه نسبة إلى زوجة الذئب، فالخلاء يتكاثر فيه الذئاب”.
والروايات تقول_ وفق ما ذكرت البيطار_ إن هذا الموقع الذي اكتشف بالمصادفة سنة 1993م (أي قبل قدوم السلطة الفلسطينية بسنة واحدة) سرقت العديد من آثاره عبر شاحنات، لكن المشرف على الموقع يعتقد أن الاحتلال استخدم طائرات أحيانًا لسرقة القطع الأثرية في ذلك الزمن.
أما “الآثار” التي اكتشفت، حديثًا، اللوحات الفسيفسائية الأرضية فتولّت مهمة “الحفاظ على الوضع القائم”؛ كونها لا تمتلك الإمكانيات المادية اللازمة لمواصلة التنقيب والبحث، والدراسة التي تكفّلت المدرسة الفرنسية بها لعمل دراسة علمية دقيقة في الموقع توقفت؛ “لأسباب فرنسية خاصة”.
ومن وجهة نظر بحثية وأكاديمية تصف البيطار الموقع: “هو مجموعات معمارية، محاطة بسور خارجي من الحجر المهندم، المسند بدعامات حجرية، ومساحته: 173م طولًا، و75م عرضًا، وربما يمتد على أراضٍ أخرى تصل مساحتها إلى 10 دونمات”.
والكنيسة _كما تقول البيطار التي لا تحبّذ إطلاق اسم “قرية” أو “مدينة” على “الدير”_ هي جزء لا يتجزأ منه، وأنشئت على النظام “البازيلكي”، وهو نظام معماري معروف في العمارة البيزنطية، بمعنى تقسيم المبنى إلى ثلاثة أروقة، أوسطها هو الأعلى والأطول، ويفصل بين الأروقة أعمدة.
لكن الفندق والبئر اللذين أشير إليهما تؤكد رئيسة قسم الدراسات أن الأول هو مكان لاستراحة الحجاج القادمين من الخارج، والآخر للصلاة وتناول الطعام، قبل أداء الشعائر “الدينية” في الكنيسة، وبهذا المعنى يمكن أن نطلق على الموقع “مجمعًا معماريًّا كنسيًّا”.
ويُطلق على المكان العميق الذي لا يمكن لأحد غير أصحاب الرتب العالية دخوله أسفل الكنيسة “الديماس”، والوصول إليه كان يتم عبر طريق تحت أرضية الكنيسة أشبه ما تكون بـ”القبو”، أما الجدير ذكره بحق فهو أن هذا الموقع طوّره تلاميذ القديس “هيلاريون” بعد وفاته.
ووزارة “الآثار” تعمل حاليًّا على حماية الموقع، وتوفير الحراسة الدائمة له، بعدما عملت على إزالة الرمال عن بعض القطع الأثرية، لكن “الدير” بحاجة إلى التنقيب بشكل أوسع؛ للكشف عن الأسوار والمداخل والآثار التي لا تعود فقط إلى الحقبة البيزنطية، بل أيضًا إلى الأيوبية والأموية والعباسية، لاسيما أن السّلطة كانت قد رشحته ليكون على قائمة التراث العالمي، وفق ما ذكرت البيطار.